يمنات
أحمد سيف حاشد
(1)
– الأحزاب والجماعات القمعية في مجتمعاتنا وبلداننا، تستلب وعيك وتصادر إرادتك، وتقلب الزيف والأكاذيب إلى حقائق، وترغمك على التسليم بصحة ما تراه هي، لا ما تراه أنت.. ولذلك نجد أعضاءها لا يقاومون ما يأتيهم من الحزب أو قيادته، وينقادون كمسحورين لها، لا اعتمال فكر، ولا محاولة تمرد، ولا ومضة جنون.. أقدار مسخرة وتسليم مطلق، وخضوع تام، واتباع بل حدود..
– فعندما يقرر الحزب أو الجماعة أنها يجب أن تسند الاحتلال وترتهن للدول المحتلة نكاية بخصمها، وتجلب لشعبها الخراب والدمار والموت؛ يجب أن يلتزم الأعضاء لقراراتها، فهي الصواب، وهي الحكمة، وهي المصلحة، وهي الحقيقة كاملة.. لا تململ ولا خروج ولا مروق.. ومثل هذا ينطبق أيضا على خصمها تماما..
– هكذا تعمل لدينا الجماعات والأحزاب.. القيادات والأعضاء مجتمعين.. هكذا جميعهم يجرون أوطاننا إلى مهالك الدمار والخراب والموت، ويعتقدون أنهم يفعلون الصواب كله والحكمة كاملة دون نقصان..
– كتب ونستون بطل رواية جورج أورويل 1984 “إن الحرية هي حرية القول إن 2+2=4 ، فإذا سلم بذلك سار كل شيء آخر في مساره الصحيح.”
– وفيما كان الحزب يوصي بأن يرفض تصديق ما تراه عيناك وما تسمعه أذناك.. ويدعي غير يقينك، ويمنع عليك الدفاع عن البسيط والواضح والحقيقي، ولا يقبل أن تقرر البديهيات، ويرغمك على التسليم بما يقرره الحزب مالك الحكمة والصواب والحقيقة الكاملة.. لقد أرغم الحزب وشرطة الفكر “ونستون” أن يقر ويعترف، بل ويصدّق أن 2+2=5
(2)
الاحتلال هو تحرير
والجيش المدعوم من المحتل هو (الجيش الوطني)
إن تبدل وانقلاب المفاهيم دليل على رداءة الواقع، والاختلال العميق الذي يغزو مفاهيم ومنطق الأشياء..
إنه انحدار سحيق للمعايير، وبؤس شديد للسياسة والثقافة معا..
رواية جورج أورويل التي أسماها “1984” تحكي مثل هذا التبدل اللامعقول في المفاهيم والشعار المقلوب لتصير الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة.
(3)
تم صناعة “الشرعية” بالاحتيال والتزوير والنفاق.
انتخاب دون منافس، ورئيس مرشح وحيد، وأحزاب متأكلة شرعيتها، ومع ذلك تمنح الشرعية وتتوج المُلك وتبارك الاحتلال..
مؤتمر حوار برعاية وإشراف ووصاية أجنبية، ومع ذلك أسموه “مؤتمر الحوار الوطني”.
حوار يفترض أن يؤدي إلى بناء دولة وتحقيق السلام، ولكنه أدى إلى تفكيك الدولة أو بقاياها، ونشوب الحرب، و وقوع الكارثة.
إنها أزمة واقع، وأزمة مفاهيم، وأزمة ديمقراطية، وأزمة ثقافة، وانحطاط ساسة..
في رواية جورج أورويل 1984 نظائر ومتماثلات تحاكيها الوزارات الأربع في دولة أوقيانيا:
وزارة الحقيقة هي المعنية بصناعة التظليل الإعلامي والثقافي والتعليمي..
ووزارة السلام تلك التي تعني بشؤون الحرب.
ووزارة الحب هي المسؤولة بحفظ النظام والقانون، ويجري فيها كل صنوف التعذيب والانتهاكات.
وأخيرا وزارة الوفرة التي ترعي الشؤون الاقتصادية، وتزيف الأرقام لتنتقص من الحصص التي يستحقها مواطنيها من الغذاء والشكولاتة.
(4)
– جريمة الفكر هي أم الجرائم.. هي الجريمة التي أستحق عليها عبد الحبيب سالم التصفية و الإزاحة من الوجود.. سأل أحدهم عن سبب تصفيته؛ فأجاب أحد المشايخ المقربين من “الأخ الكبير” بعبارة من كلمتين: “بدأ يفهم”.
كثيرون هم الذين تم ترحيلهم إلى الآخرة وفي مختلف المراحل والعهود لأنهم فهموا أو بدوءا يفهموا.
– تصور رواية جورج أورويل 1984 جريمة الفكر بأنها أم الجرائم.. الجريمة التي لمجرد سماعها يدق قلبك كالطبل.. الجريمة التي تجعلك لمجرد التفكير بها كأنك فأر مذعور في حجرة.. إنها الجريمة التي تنطوي على كل الجرائم ..
– تحكي الرواية أن كل من يغاير الولاء، أو يتحدث بصراحة شديدة، أو يكون متوقد الذكاء، أو لديه بصيرة نافذة، تستطيع أن تجزم أن نهايته التصفية أو النهاية المأسوية..
– التفكير جريمة بل أم الجرائم في مجتمعاتنا القمعية وأنظمتنا الشمولية.. الفهم جريمة تطيح برأسك.. تصنع نهاية لحياتك.. تستحق على اقترافها عقوبة الموت دون رحمة..
(5)
– في رواية جورج أورويل 1984 تحكي كيف يتم صناعة الخوف المهول، وكيف يتم التمكن من الاستيلاء على الوعي عن طريق هذا الخوف المسيطر، وكيف يستمر الخضوع والطاعة والولاء الكامل لقيادة الحزب أو الجماعة أو الرئيس، أو ما أصطلح عليه في الرواية اسم الأخ الكبير (القائد).
– شرطة الفكر تراقبك.. تتابع أنفاسك.. تحصي الأشياء الدقيقة عنك.. يجب عليك أنت أن لا تدع أفكارك تجري على عواهنا، حينما تكون في مكان عام، أو ضمن مدار شاشة الرصد.. إن ألد أعداءك هو جهازك العصبي.. أهون الأشياء يمكنها أن تودي بك.. حركة عصبية لا إرادية أو ظهور تعبير انفعالي غير لائق على وجهك يمكن أن تحدد مآلك ومصيرك.(كأن تبدو عليك علامات الارتياب حينما يتم الإعلان عن أحد الانتصارات) فيستوجب ذلك عقابا، وتكون قد ارتكبت ما يعرف باسم جريمة الوجه..
– هناك نماذج كثيرة تستطيع أن تجدها في الواقع.. هناك من قتل وزيره المخلص في اجتماع مجلس وزرائه لمجرد رأي ربما أثبتت الأيام صوابه.. نهض القائد من مقعده في اجتماع مجلس الوزراء، وتحرك نحو الوزير الذي أبدى رأيا في موضوع بدأ معارضا لرأي أو لموقف القائد، وقال له افتح فمك، ففتح الوزير فمه استجابة لأمر القائد، فأدخل القائد ماسورة مسدسه في فم الوزير، وأطلق الرصاص في عمق فمه، ليخر الوزير صريعا.. تصوروا مقدار الخوف والرعب الذي ينزل ببقية الوزراء وما تنزله الحكاية من خوف ورعب في غيرهم ..
– لعل مسرحية “الزعيم” والذي لعب دور البطل فيها الممثل عادل إمام أختزل المشهد على نحو مكثف علاقة الزعيم مع وزرائه وصناعة الخوف والطاعة والولاء الكامل والمطلق بعيدا عن العقل والمنطق والعدل..
(6)
القوى السياسية في بلادنا أختبرها الواقع مرارا، فعندما تصل إلى السلطة تتطلع إلى الاستفراد بها، دون منازع أو معارض.. تتضخم الذات فيها، وتعظم لديها المصلحة.. تفرط في الأنانية، وتتنمر على من حولها.. تقصي من أول فرصة ممكنة من كانوا شركاءها في الأمس القريب، فضلا عن اقصى خصومها ومنافسيها الفعليين، بل وحتى المحتملين..
تلك القوى لديها السلطة شاة لمن يظفر بها، وإن ظفرت تطلعت للاستحواذ والاستفراد بها دون غيرها .. فهي لا تكتفي بإبعاد خصومها ومنافسيها والإجهاز عليهم، بل وتُجهز أو تقصي حتى من كان معها وفي قيادتها إلى اليوم؛ لمجرد أن تحس أو تستشعر بوجود رأي أو فكرة تثير الجدل في أوساطها، أو تتوجس من صاحبها، أو حتى تتوهم أنه ينبي عن ميول انشقاقية في المستقبل المجهول.
وبعد أن تزيحه أو تخفيه أو تتخلص منه، تنكب إلى إزالة تاريخه، أو تشويهه وتقبيحه، أو محاولة انساء الناس حتى ذكر اسمه وبقدر ما تستطيع فعله..
في رواية جورج أرويل 1984 نجد مقاربات لهذا في الحزب المستفرد بالسلطة بدون منافس، وبزاعمة ما تسميه الرواية بـ “الأخ الكبير”
الأشخاص الذين يجلبون على أنفسهم غضب الحزب، لا يختفون فقط من الوجود، بل ويختفي معهم ذكرهم، ولا تعثر لهم على أي مفتاح يكشف سر اختفائهم..
عندما يرغب الأخ الكبير التخلص من أحد مرؤوسيه الذين يحظون بشعبية مثلا أو يُستشعر منهم بميول انشقاقية، لا يتم الاكتفاء بالتخلص من حياتهم، بل يكون اعتكاف جيش خاص في الجهاز التضليلي المسمى بوزارة الحقيقة لتشويهه واستقباحه، ونشر الزيف والأكاذيب عنه، وتحويل الأباطيل إلى (حقائق) لا يعترض عليها أحد.. أو تعقب ذكره ومحوه وإنساء الناس اسمه، واعتباره كأنه لم يكونوا أبدا.
ومن ثم إعادة بناء الماضي على النحو الذي يريده الحزب العظيم.
(7)
قالت له غير مكترثة: لقد خنتك
فقال لها وأنا أيضا خنتك
هكذا هُزم الحب وانتصرت الخيانة..
تلك هي النهاية الحزينة التي ساقها جورج أورويل في روايته 1984 وفيها اختزال مكثف لانتصار الظلم على العدالة، وقيم الشر على قيم الخير والفضيلة.
ما صنعته غرف التعذيب المهول بالحبيبين جوليا و ونستون تشبه ما تصنعه أهوال القيامة، ما تصنعه هذه الحرب اليوم بنا أكبر من أهوال القيامة..
هذه الحرب رعبها الأكبر أنها تنتصر على اخلاقنا وبصورة ساحقة أحيانا.. تسحق الضمير والمبادئ والجمال الذي كان يجتاحنا قبلها، أو مر علينا ذات يوم..
هذه الحرب جعلتنا نبدو أمام أنفسنا كمن يشاهد صورته في مرآة مكسورة أو مهشمة.. نبدو قبيحين أمام أنفسنا إلى حد بعيد.. كراهية تتكور نارا في دواخلنا، ونشعر أن ليس بوسع مجرة في الكون أن تطيقها أو تتحملها..
هذه الحرب أخرجت أقبح ما فينا من أنانية مفرطة، وبشاعة فجة، وكره بلا حدود وبلا منطق، واسترخاص الحياة إلى حد عبثي وباذخ، واستهوى المال على حساب الحياة والفضيلة ومعاناة البسطاء، حرب تدفعنا كل يوم لارتكاب مزيد من المظالم والجرائم الكبار بحق شعبنا، ومن غير مبالاة أو اكتراث..
هذه الحرب أخرستنا عن قول الحق حد الوحشة، وجعلتنا ننحاز للباطل حد الالتحام معه بغرض الانتقام من الحق والعدالة، ومن الإنسان قبلهما..
هذه الحرب ما نشرته في نفوسنا من دمار وخراب أكثر وأكبر من ذلك الخراب والدمار الذي وقع خارجها.
ما صنعته هذه الحرب فينا يشبه إلى حد بعيد بما صنعته غرف التعذيب المغلقة بحب ونستون وجوليا في رواية جورج أورويل 1984
(8)
هل هُزمنا؟! هل هزمتنا هذه الحرب اللعينة، وتمكنت من وضع نهايتها على حياتنا بكل تفاصيل الموت؟! هل وضعت ختامها القاتم على مستقبل كنا نخاله مأمول ومشرق؟!
تحزنني الحياة بهذه النهاية، وتحزنني الروايات التي تكون دون مسك أو ختام بهي ..
ما قيمة الحياة إن عاشت مهزومة، أو تلاشت بلا خلق ولا ولادة ولا أمل..
رواية جورج أورويل 1984 نهايتها المحزنة تصرع قارئها، حيث ينتصر فيها الظلم والاستبداد وغرف التعذيب على الحرية والإنسان والحياة.. وتنتصر فيها الكراهية على حب (ونتسون) و (جوليا) وتنتصر الخيانة على الوفاء..
جوليا ذات القوام الممشوق عندما كانت تنزع ثيابها تبدو وكأنها تقوض أركان الحضارة بكاملها.. جسدها ناصع البياض تحت ضوء الشمس.. ترتمي بين ذراعيه.. جسدها الغض مشدود على جسده، والشعر الأسود يغطي صفحة وجهه.. كان يمطر شفتيها بالقبلات، وهي تحيط عنقه بذراعيها وتناديه بمعسول القول..
وفي لقاءهما الأخير لم تتجاوب جوليا معه، حين أحاط خصرها بذراعه.. وجهها شاحب والندبات يغطيها الشعر.. خصرها صار أكثر امتلاء وتيبسا ذكرته بجثة كان ينتشلها من تحت أنقاض الحرب..
صار الحب الجميل بينهما ازدراء وكراهية..
لا أريد للحياة مثل هذه النهايات ..
الحياة يجب في نهاية المطاف يجب أن تنتصر على الموت، وتستمر حتى وإن أخذ الموت جولته..
الحياة ولادة لا تموت..
(9)
رواية جورج أورويل التي أسماها “1984”
تم ترجمتها إلى أكثر من 60 لغة
واختيرت ضمن أفضل 100 رواية في العالم
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا